تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 309 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 309

309 : تفسير الصفحة رقم 309 من القرآن الكريم

** وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصّـلاَةِ وَالزّكَـاةِ وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً
هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهماالسلام, وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه كان صادق الوعد. قال ابن جريج: لم يعد ربه عدة إلا أنجزها, يعني ما التزم عبادة قط بنذر إلا قام بها ووفاها حقها. وقال ابن جرير: حدثني يونس, أنبأنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث أن سهل بن عقيل حدثه أن إسماعيل النبي عليه السلام وعد رجلاً مكاناً أن يأتيه فيه, فجاء ونسي الرجل, فظل به إسماعيل وبات حتى جاء الرجل من الغد, فقال: ما برحت من ههنا ؟ قال: لا. قال: إني نسيت قال: لم أكن أبرح حتى تأتيني, فلذلك {كان صادق الوعد} وقال سفيان الثوري: يلغني أنه أقام في ذلك المكان ينتظره حولاً حتى جاءه وقال ابن شوذب: بلغني أنه اتخذ ذلك الموضع مسكناً.
وقد روى أبو داود في سننه, وأبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه مكارم الأخلاق, من طريق إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الكريم يعني ابن عبد الله بن شقيق, عن أبيه عن عبد الله بن أبي الحمساء, قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث, فبقيت له علي بقية, فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك, قال: فنسيت يومي والغد, فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك, فقال لي: «يا فتى لقد شققت عليّ, أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك» لفظ الخرائطي وساق آثاراً حسنة في ذلك, ورواه ابن منده أبو عبد الله في كتاب معرفة الصحابة بإسناده عن إبراهيم بن طهمان, عن بديل بن ميسرة عن عبد الكريم به.
وقال بعضهم: إنما قيل له: {صادق الوعد} لأنه قال لأبيه: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} فصدق في ذلك, فصدق الوعد من الصفات الحميدة كما أن خلفه من الصفات الذميمة, قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا أؤتمن خان» ولما كانت هذه صفات المنافقين, كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين, ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد, وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق الوعد أيضاً لا يعد أحداً شيئاً إلا وفى له به, وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب, فقال: «حدثني فصدقني, ووعدني فوفى لي» ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال الخليفة أبو بكر الصديق من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتني أنجز له, فجاء جابر بن عبد الله فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا» يعني ملء كفيه, فلما جاء مال البحرين أمر الصديق جابراً فغرف بيديه من المال, ثم أمره بعده فإذا هو خمسمائة درهم فأعطاه مثليها معها.
وقوله: {وكان رسولاً نبي} في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق, لأنه إنما وصف بالنبوة فقط, وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة. وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل» وذكر تمام الحديث, فدل على صحة ما قلناه. وقوله: {وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضي} هذا أيضاً من الثناء الجميل والصفة الحميدة, والخلة السديدة, حيث كان مثابراً على طاعة ربه عز وجل, آمراً بها لأهله, كما قال تعالى لرسوله: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليه} الاَية, وقال: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} أي مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر ولا تدعوهم هملاً, فتأكلهم النار يوم القيامة, وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته, فإن أبت نضح في وجهها الماء. رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها, فإن أبى نضحت في وجهه الماء» أخرجه أبو داود وابن ماجه. وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين, كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه واللفظ له.

** وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنّهُ كَانَ صِدّيقاً نّبِيّاً * وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً
ذكر إدريس عليه السلام بالثناء عليه بأنه كان صديقاً نبياً, وأن الله رفعه مكاناً علياً, وقد تقدم في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به في ليلة الإسراء وهو في السماء الرابعة. وقد روى ابن جرير ههنا أثراً غريباً عجيباً فقال: حدثني يونس بن عبد الأعلى, أنبأنا ابن وهب, أخبرني جرير بن حازم عن سليمان الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال: سأل ابن عباس كعباً وأنا حاضر فقال له: ما قول الله عز وجل لإدريس {ورفعناه مكاناً علي} فقال كعب: أما إدريس, فإن الله أوحى إليه أني أرفع لك كل يوم مثل عمل جميع بني آدم, فأحب أن يزداد عملاً, فأتاه خليل له من الملائكة فقال له: إن الله أوحى إلي كذا وكذا, فكلم لي ملك الموت فليؤخرني حتى أزداد عملاً, فحمله بين جناحيه حتى صعد به إلى السماء, فلما كان في السماء الرابعة تلقاهم ملك الموت منحدراً, فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس, فقال: وأين إدريس ؟ فقال: هوذا على ظهري. قال ملك الموت: العجب, بعثت وقيل لي: اقبض روح إدريس في السماء الرابعة, فجعلت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض ؟ فقبض روحه هناك, فذلك قول الله {ورفعناه مكاناً علي} هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات, وفي بعضه نكارة, والله أعلم.
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس أنه سأل كعباً فذكر نحو ما تقدم, غير أنه قال لذلك الملك: هل لك أن تسأله, يعني ملك الموت, كم بقي من أجلي لكي أزداد من العمل, وذكر باقيه وفيه: أنه لما سأله عما بقي من أجلي, قال: لا أدري حتى أنظر, فنظر ثم قال: إنك تسألني عن رجل ما بقي من عمره إلا طرفة عين, فنظر الملك تحت جناحه فإذا هو قد قبض عليه السلام وهو لا يشعر به, ثم رواه من وجه آخر عن ابن عباس أن إدريس كان خياطاً, فكان لا يغرز إبرة إلا قال: سبحان الله, فكان يمسي حين يمسي وليس في الأرض أحد أفضل عملاً منه, وذكر بقيته كالذي قبله أو نحوه.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {ورفعناه مكاناً علي} قال إدريس رفع ولم يمت كما رفع عيسى, وقال سفيان عن منصور عن مجاهد {ورفعناه مكاناً علي} قال: السماء الرابعة, وقال العوفي عن ابن عباس {ورفعناه مكاناً علي} قال: رفع إلى السماء السادسة فمات بها وهكذا قال الضحاك بن مزاحم وقال الحسن وغيره في قوله: {ورفعناه مكاناً علي} قال: الجنة.

** أُولَـَئِكَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّيْنَ مِن ذُرّيّةِ ءادَمَ وَمِمّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمَـَنِ خَرّواْ سُجّداً وَبُكِيّاً
يقول تعالى: هؤلاء النبيون ـ وليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط بل جنس الأنبياء عليهم السلام استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس ـ {الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم} الاَية, قال السدي وابن جرير رحمه الله. فالذي عنى به من ذرية آدم إدريس, والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح إبراهيم والذي عنى به من ذرية إبراهيم إسحاق ويعقوب وإسماعيل, والذي عنى به من ذرية إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم, قال ابن جرير: ولذلك فرق أنسابهم وإن كان يجمع جميعهم آدم, لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة وهو إدريس, فإنه جد نوح (قلت) هذا هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوح عليهما السلام, وقد قيل إنه من أنبياء بني إسرائيل أخذ من حديث الإسراء, حيث قال في سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح, ولم يقل والولد الصالح, كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام.
وروى ابن أبي حاتم: حدثنا يونس, أنبأنا ابن وهب, أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن محمد أن إدريس أقدم من نوح, فبعثه الله إلى قومه فأمرهم أن يقولوا لا إله إلا الله, ويعملوا ما شاؤوا, فأبوا فأهلكهم الله عز وجل, ومما يؤيد أن المراد بهذه الاَية جنس الأنبياء أنها كقوله تعالى في سورة الأنعام: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم * ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم * ـ إلى قوله ـ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} وقال سبحانه وتعالى: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك}. وفي صحيح البخاري عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: أفي {ص} سجدة ؟ فقال: نعم, ثم تلا هذه الاَية: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} فنبيكم ممن أمر أن يقتدي بهم, قال: وهو منهم, يعني داود. وقال الله تعالى في هذه الاَية الكريمة: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكي} أي إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه, سجدوا لربهم خضوعاً واستكانة وحمداً وشكراً على ما هم فيه من النعم العظيمة, والبكي جمع باك, فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود ههنا اقتداء بهم واتباعاً لمنوالهم. قال سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر قال: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سورة مريم, فسجد وقال: هذا السجود فأين البكي ؟ يريد البكاء, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, وسقط من رواته ذكر أبي معمر فيما رأيت, فالله أعلم.

** فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصّلاَةَ وَاتّبَعُواْ الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً * إِلاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً
لما ذكر تعالى حزب السعداء وهم الأنبياء عليهم السلام, ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره, المؤدين فرائض الله التاركين لزواجره, ذكر أنه {خلف من بعدهم خلف} أي قرون أخر {أضاعوا الصلاة} وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع, لأنها عماد الدين وقوامه وخير أعمال العباد, وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها, فهؤلاء سيلقون غياً, أي خساراً يوم القيامة, وقد اختلفوا في المراد بإضاعة الصلاة ههنا فقال قائلون: المراد بإضاعتها تركها بالكلية, قاله محمد بن كعب القرظي وابن زيد بن أسلم والسدي, واختاره ابن جرير ولهذا ذهب من ذهب من السلف والخلف والأئمة كما هو المشهور عن الإمام أحمد, وقول عن الشافعي إلى تكفير تارك الصلاة للحديث «بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة». والحديث الاَخر «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة, فمن تركها فقد كفر» وليس هذا محل بسط هذه المسألة.
وقال الأوزاعي عن موسى بن سليمان عن القاسم بن مخيمرة في قوله: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة} قال: أي أضاعوا المواقيت ولو كان تركاً كان كفراً. وقال وكيع عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن والحسن بن سعد عن ابن مسعود أنه قيل له: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن {الذين هم عن صلاتهم ساهون} و{على صلاتهم دائمون} و{على صلاتهم يحافظون} فقال ابن مسعود: على مواقيتها. قالوا: ما كنا نرى ذلك إلا على الترك, قال ذلك الكفر, قال مسروق: لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس فيكتب من الغافلين, وفي إفراطهن الهلكة, وإفراطهن إضاعتهن عن وقتهن, وقال الأوزاعي عن إبراهيم بن يزيد: أن عمر بن عبد العزيز قرأ: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غي} ثم قال: لم تكن إضاعتهم تركها ولكن أضاعوا الوقت, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات} قال: عند قيام الساعة وذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينزو بعضهم على بعض في الأزقة, وكذا روى ابن جريج عن مجاهد مثله, وروى جابر الجعفي عن مجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح أنهم من هذه الأمة, يعنون في آخر الزمان.
وقال ابن جرير: حدثني الحارث, حدثنا الحسن الأشيب, حدثنا شريك عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات} قال: هم في هذه الأمة يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في الطرق, لا يخافون الله في السماء, ولا يستحيون من الناس في الأرض وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي, حدثنا أبو عبد الرحمن المقري, حدثنا حيوة, حدثنا بشير بن أبي عمرو الخولاني أن الوليد بن قيس حدثه أنه سمع أبا سيعد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يكون خلف بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات, فسوف يلقون غياً, ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيهم, ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن, ومنافق وفاجر» وقال بشير: قلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة ؟ قال: المؤمن مؤمن به, والمنافق كافر به. والفاجر يأكل به» وهكذا رواه أحمد عن أبي عبد الرحمن المقري به.
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثني أبي, حدثنا إبراهيم بن موسى, أنبأنا عيسى بن يونس, حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن وهب عن مالك عن أبي الرجال أن عائشة كانت ترسل بالشيء صدقة لأهل الصفة, وتقول: لا تعطوا منه بربرياً, ولا بربرية, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هم الخلف الذين قال الله تعالى فيهم: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة» هذا الحديث غريب. وقال أيضاً: حدثني أبي, حدثنا عبد الرحمن بن الضحاك, حدثنا الوليد حدثنا حريز عن شيخ من أهل المدينة أنه سمع محمد بن كعب القرظي يقول في قول الله: {فخلف من بعدهم خلف} الاَية, قال: هم أهل الغرب يملكون وهم شر من ملك.
وقال كعب الأحبار: والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز وجل: شرّابين للقهوات, ترّاكين للصّلوات, لعّابين بالكعبات, رقّادين عن العتمات, مفرطين في الغدوات, ترّاكين للجماعات, قال: ثم تلا هذه الاَية {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غي} وقال الحسن البصري: عطلوا المساجد ولزموا الضيعات. وقال أبو الأشهب العطاردي: أوحى الله إلى داود عليه السلام: يا داود حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات, فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة, وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته أن أحرمه من طاعتي.
وقال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب, حدثنا أبو السمح التميمي عن أبي قبيل أنه سمع عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أخاف على أمتي اثنتين: القرآن, واللبن» أما اللبن فيتبعون الريف ويتبعون الشهوات ويتركون الصلاة, أما القرآن فيتعلمه المنافقون فيجادلون به المؤمنين, ورواه عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة: حدثنا أبو قبيل عن عقبة به, مرفوعاً بنحوه, تفرد به.
وقوله: {فسوف يلقون غي} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {فسوف يلقون غي} أي خسراناً, وقال قتادة: شراً, وقال سفيان الثوري وشعبة ومحمد بن إسحاق عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة, عن عبد الله بن مسعود {فسوف يلقون غي} قال: واد في جهنم بعيد القعر, خبيث الطعم. وقال الأعمش عن زياد عن أبي عياض في قوله: {فسوف يلقون غي} قال: واد في جهنم من قيح ودم. وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثني عباس بن أبي طالب, حدثنا محمد بن زياد, حدثنا شرقي بن قطامي عن لقمان بن عامر الخزاعي قال: جئت أبا أمامة صدي بن عجلان الباهلي, فقلت: حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدعا بطعام, ثم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها خمسين خريفاً, ثم تنتهي إلى غي وآثام» قال: قلت ماغي وآثام ؟ قال: قال: «بئران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار» وهما اللذان ذكرهما الله في كتابه {أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غي} وقوله في الفرقان: {ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثام} هذا حديث غريب ورفعه منكر.
وقوله: {إلا من تاب وآمن وعمل صالح} أي إلا من رجع عن ترك الصلوات واتباع الشهوات, فإن الله يقبل توبته ويحسن عاقبته ويجعله من ورثة جنة النعيم, ولهذا قال: {فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئ} وذلك لأن التوبة تجبّ ما قبلها, وفي الحديث الاَخر «التائب من الذنب كمن لاذنب له» ولهذا لا ينقص هؤلاء التائبون من أعمالهم التي عملوها شيئاً, ولا قوبلوا بما عملوه قبلها فينقص لهم مما عملوه بعدها, لأن ذلك ذهب هدراً وترك نسياً, وذهب مجاناً من كرم الكريم وحلم الحليم, وهذا الاستثناء ههنا كقوله في سورة الفرقان: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ـ إلى قوله ـ وكان الله غفوراً رحيم}.

** جَنّاتِ عَدْنٍ الّتِي وَعَدَ الرّحْمَـَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً * لاّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاّ سَلاَماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً * تِلْكَ الْجَنّةُ الّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً
يقول تعالى: الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم هي جنات عدن, أي إقامة التي وعد الرحمن عباده بظهر الغيب, أي هي من الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه, وذلك لشدة إيقانهم وقوة إيمانهم. وقوله: {إنه كا وعده مأتي} تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره, فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله, كقوله: {كان وعده مفعول} أي كائناً لا محالة, وقوله ههنا: {مأتي} أي العباد صائرون إليه وسيأتونه, ومنهم من قال {مأتي} بمعنى آتياً, لأن كل ما أتاك فقد أتيته, كما تقول العرب: أتت علي خمسون سنة, وأتيت على خمسين سنة, كلاهما بمعنى واحد.
وقوله: {لا يسمعون فيها لغو} أي هذه الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه لا معنى له كما قد يوجد في الدنيا. وقوله: {إلا سلام} استثناء منقطع كقوله: {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلام} وقوله: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشي} أي في مثل وقت البكرات ووقت العشيات لا أن هناك ليلاً ونهاراً, ولكنهم في أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنوار, كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها, ولا يتمخطون فيها. ولايتغوطون, آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ومجامرهم الألوّة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان, يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن, لا اختلاف بينهم ولا تباغض, قلوبهم على قلب رجل واحد, يسبحون الله بكرة وعشيا» أخرجاه في الصحيحين من حديث معمر به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب, حدثنا أبي عن ابن إسحاق, حدثنا الحارث بن فضيل الأنصاري عن محمود بن لبيد الأنصاري, عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء, يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً» تفرد به أحمد من هذا الوجه. وقال الضحاك عن ابن عباس {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشي} قال: مقادير الليل والنهار.
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهم, حدثنا الوليد بن مسلم قال: سألت زهير بن محمد عن قول الله تعالى: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشي} قال: ليس في الجنة ليل, هم في نور أبداً ولهم مقدار الليل والنهار, ويعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب, ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وبفتح الأبواب, وبهذا الإسناد عن الوليد بن مسلم عن خليد عن الحسن البصري, وذكر أبواب الجنة فقال: أبواب يرى ظاهرها من باطنها فتكلم وتكلم فَتُهمْهِمُ, انفتحي انغلقي فتفعل, وقال قتادة في قوله: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشي} فيها ساعتان بكرة وعشي, ليس ثم ليل ولا نهار, وإنما هو ضوء ونور, وقال مجاهد: ليس بكرة ولا عشي, ولكن يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا.
وقال الحسن وقتادة وغيرهما: كانت العرب الأنعم فيهم من يتغدى ويتعشى, فنزل القرآن على ما في أنفسهم من النعيم فقال تعالى: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشي} وقال ابن مهدي عن حماد بن زيد عن هشام عن الحسن {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشي} قال: البكور يرد على العشي, والعشي يرد على البكور, ليس فيها ليل. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا سليم بن منصور بن عمار, حدثني أبي حدثني محمد بن زياد قاضي أهل شمشاط عن عبد الله بن حدير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من غداة من غدوات الجنة وكل الجنة غدوات, إلا أنه يزف إلى ولي الله, فيها زوجة من الحور العين أدناهن التي خلقت من الزعفران» قال أبو محمد: هذا حديث غريب منكر.
وقوله: {تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقي} أي هذه الجنة التي وصفنا بهذه الصفات العظيمة, هي التي نورثها عبادنا المتقين, وهم المطيعون لله عز وجل في السراء والضراء, والكاظمون الغيظ, والعافون عن الناس, وكما قال تعالى في أول سورة المؤمنين {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} إلى أن قال: {أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}.

** وَمَا نَتَنَزّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبّكَ نَسِيّاً * رّبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً
قال الإمام أحمد: حدثنا يعلى ووكيع قالا: حدثنا عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرائيل: «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ؟» قال: فنزلت {وما نتنزل إلا بأمر ربك} إلى آخر الاَية.
انفرد بإخراجه البخاري فرواه عند تفسير هذه الاَية عن أبي نعيم عن عمر بن ذر به ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عمر بن ذر به وعندهما زيادة في آخر الحديث فكان ذلك الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم وقال العوفي عنابن عباس احتبس جبرائيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وحزن فأتاه جبريل وقال: يا محمد {وما نتنزل إلا بأمر ربك} الاَية.
وقال مجاهد لبث جبرائيل عن محمد صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة ليلة, ويقولون أقل, فلما جاءه قال: «يا جبرائيل لقد لبثت علي حتى ظن المشركون كل ظن» فنزلت {وما نتنزل إلا بأمر ربك} الاَية. قال: وهذه الاية كالتي في الضحى, وكذلك قال الضحاك بن مزاحم وقتادة والسدي وغير واحد: إنها نزلت في احتباس جبرائيل. وقال الحكم بن أبان عن عكرمة قال: أبطأ جبرائيل النزول على النبي صلى الله عليه وسلم: أربعين يوماً, ثم نزل, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «ما نزلت حتى اشتقت إليك» فقال له جبريل: بل أنا كنت إليك أشوق ولكني مأمور, فأَوحى الله إلى جبرائيل أن قل له {وما نتنزل إلا بأمر ربك} الاَية, ورواه ابن أبي حاتم رحمه الله وهو غريب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن مجاهد قال: أبطأت الرسل على النبي صلى الله عليه وسلم, ثم أتاه جبريل فقال له «ما حبسك يا جبريل ؟» فقال له جبريل: وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم, ولا تنقون براجمكم, ولا تأخذون شواربكم, ولا تستاكون. ثم قرأ {وما نتنزل إلا بأمر ربك} إلى آخر الاَية. وقد قال الطبراني: حدثنا أبو عامر النحوي, حدثنا محمد بن إبراهيم الصوري, حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي, حدثنا إسماعيل بن عياش, أخبرني ثعلبة بن مسلم عن أبي كعب مولى ابن عباس, عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبرائيل أبطأ عليه فذكر له ذلك, فقال: وكيف وأنتم لا تستنون, ولا تقلمون أظفاركم, ولا تقصون شواربكم, ولا تنقون براجمكم ؟ وهكذا رواه الإمام أحمد عن أبي اليمان عن إسماعيل بن عياش عن ابن عباس بنحوه.
وقال الإمام احمد: حدثنا سيار, حدثنا جعفر بن سليمان, حدثنا المغيرة بن حبيب عن مالك بن دينار, حدثني شيخ من أهل المدينة عن أم سلمة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصلحي لنا المجلس فإنه ينزل ملك إلى الأرض لم ينزل إليها قط» وقوله: {له ما بين أيدينا وما خلفن} قيل: المراد ما بين أيدينا أمر الدنيا, وما خلفنا أمر الاَخرة, {وما بين ذلك} ما بين النفختين, هذا قول أبي العالية وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة في رواية عنهما, والسدي والربيع بن أنس, وقيل: {ما بين أيدين} ما يستقبل من أمر الاَخرة {وما خلفن} أي ما مضى من الدنيا {وما بين ذلك} أي ما بين الدنيا والاَخرة, ويروى نحوه عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن جريج والثوري, واختاره ابن جرير أيضاً, والله اعلم.
وقوله: {وما كان ربك نسي} قال مجاهد معناه ما نسيك ربك, وقد تقدم عنه أن هذه الاَية كقوله: {والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد الدمشقي, حدثنا محمد بن عثمان يعني أبا الجماهر, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة عن أبيه عن أبي الدرداء يرفعه قال «ما أحل الله في كتابه فهو حلال, وما حرمه فهو حرام, وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله عافيته, فإن الله لم يكن لينسى شيئاً» ثم تلا هذه الاية {وما كان ربك نسي} وقوله: {رب السموات والأرض وما بينهم} أي خالق ذلك ومدبره والحاكم فيه والمتصرف الذي لا معقب لحكمه {فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمي} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هل تعلم للرب مثلاً أو شبيهاً, وكذلك قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وابن جريج وغيرهم. وقال عكرمة عن ابن عباس: ليس أحد يسمى الرحمن غيره تبارك وتعالى وتقدس اسمه.